بين التوقيع والتطبيق.. غزة على خط الهدنة الحذرة

تدخل المنطقة اليوم مرحلة جديدة من الترقب، بعد الإعلان مؤخراً عن توقيع المرحلة الأولى من خطة السلام بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية وبغطاء أميركي، أنهت أسابيع من المفاوضات الشاقة على الخطوط الساخنة الممتدة بين غزة وتل أبيب وواشنطن.

ولم يكن الإعلان عن توقيع المرحلة الأولى من الاتفاق مفاجئا في جوهره، فالطريق الذي بدأ بتسريبات حول خطة ترامب للسلام كان يتجه تدريجيا نحو صيغة واقعية، تقوم على هدنة مؤقتة وليس تسوية نهائية. لكن ما أدهش المراقبين هو سرعة التوصل إلى تلك الصيغة، بعد أن بدت المفاوضات حتى قبل أيام قليلة غارقة في الشكوك.

تفاصيل المرحلة الأولى

المرحلة الأولى من الاتفاق، رغم أنها تبدو فنية في ظاهرها، وتتعلق بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وتسهيل مرور المساعدات، إلا أنها في جوهرها اختبار للنوايا قبل أن تكون اختباراً للنتيجة. وتدرك حماس أن الطريق إلى أي حل سياسي يمر عبر اختبار التنفيذ، وأن الضمانات التي طالبت بها خلال جولات التفاوض السابقة أصبحت اليوم معيار ثقة وليس مجرد مطلب تفاوضي. أما إسرائيل فترى في هذه المرحلة فرصة لقياس مدى قدرة الدول الراعية للاتفاق على السيطرة على الميدان، وقياس حدود التزام الحركة الفلسطينية بالتهدئة. وبذلك يتحول الاتفاق إلى مرآة تعكس مقدار الثقة المتبقية بين الطرفين، وليس ما تم الاتفاق عليه على الورق.

الدور المصري الأمريكي

فالقاهرة التي تحملت عبء الوساطة منذ اللحظة الأولى، تدرك أن ما تم تحقيقه ليس إنجازاً نهائياً بل هدنة قابلة للزعزعة، وأن أي خلل في التنفيذ سيعيد المنطقة إلى نقطة الصفر. ولذلك تبدو حذرة في طريقة إدارتها للمرحلة المقبلة. فهي لا تريد الظهور كضامن لاتفاق هش، ولا أن تُحسب في جانب ضد آخر. وهي تحاول الموازنة بين إصرار واشنطن على إظهار «نتيجة ملموسة» على المدى الطويل. وسرعان ما أعرب عن قلق حماس من أن تتحول المرحلة الأولى إلى فخ سياسي طويل الأمد. ومن هنا فإن مصر تتعامل مع الاتفاق باعتباره عملية مستمرة، وليس لحظة إنجاز. وكل يوم يمر دون انتهاك يعد خطوة إضافية في تعزيز الدور المصري كضامن ووسيط موثوق.

وتسعى الولايات المتحدة من جانبها إلى ترجمة الاتفاق على أنه نجاح دبلوماسي يعيدها إلى المبادرة في المنطقة، رغم أنها تدرك أن ما تم تحقيقه هش بطبيعته، وأن أي فشل في تنفيذ بنوده سيقوض قدرتها على فرض «خطة السلام». ولذلك تمارس واشنطن ضغوطاً مزدوجة: على تل أبيب للالتزام بالضوابط الميدانية، وعلى القاهرة لتسريع وتيرة التنفيذ، في محاولة لتجنب أي فراغ سياسي. لكن هذا الضغط لا يترجم بالضرورة إلى ضمانات، فالضمانة في هذه الحالة لا تُعطى عبر التصريحات، بل تُبنى على أرض الواقع، حيث لكل طرف حساباته ومخاوفه.

في المقابل، تتعامل حماس مع الاتفاق كمرحلة اختبار، وليس كخاتمة للمواجهة. بالنسبة لها، المرحلة الأولى ليست مكسباً بقدر ما هي مساحة لإعادة ترتيب الداخل واستعادة المبادرة السياسية. ولذلك وضع الحراك سقفاً واضحاً: عدم تنفيذ أي بند جديد قبل التأكد من التزام الطرف الآخر بما تم التوقيع عليه. ويعكس هذا الموقف تحولاً في التوجه الذي تتبناه حماس، التي تنظر الآن إلى الوقت باعتباره أداة للتفاوض، وليس كعامل ضغط.

مخاوف إسرائيلية من ناحية أخرى، تنظر إسرائيل إلى المرحلة الأولى من زاوية أمنية بحتة. وهي تريد التأكد من أن الهدوء في الجنوب ليس راحة للمحارب، بل بداية استقرار يمكن البناء عليه. لكنها في الوقت نفسه تستخدم الاتفاق كوسيلة لقياس متانة شبكة الوساطات الإقليمية، ومدى التزام واشنطن بالتحرك في الأوقات الحرجة. ولذلك تبدو إسرائيل اليوم أقل اندفاعاً نحو التصعيد وأكثر انشغالاً بقراءة الميدان من منظور السيطرة وليس الردع، وهي تدرك أن أي فشل في التنفيذ لن يكون مجرد خرق أمني، بل فشلاً سياسياً للنظام الذي دفع للاتفاق.

وفي الوقت نفسه، تقف المنطقة بأكملها على خطوط مراقبة دقيقة. وتتحرك الدوحة بحذر لتثبيت التهدئة وتجنب الأدوار المزدوجة مع القاهرة. أما الرياض وأنقرة فإنهما تتبنى نهجاً هادئاً وعملياً: دعم المسار السياسي الذي يمنع انفجاراً جديداً، مع إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع واشنطن، لأن الاستقرار النسبي في غزة يعني هدوءاً على مستوى المنطقة برمتها، وبالتالي يتعامل الجميع مع… الاتفاق هدنة قابلة للاختبار، وليس تسوية قابلة للحياة.

اختبار الثقة

على خلفية هذا المشهد، تبقى «الثقة» الكلمة الأكثر تداولاً في الغرف المغلقة، وحتى الآن لا يزال الطرفان يتصرفان على أساس الحذر المتبادل، وكأن هناك من يمد يده للسلام وعيناه مفتوحتان على الخطر. ومن هنا فإن نجاح المرحلة الأولى لن يقاس فقط بوقف إطلاق النار أو مرور الشاحنات، بل بمدى قدرة كل طرف على الالتزام بما وعد به، ومدى استعداد الدول الضامنة لتحويل الوعود إلى التزامات موثقة. لقد علمت التجارب السابقة الجميع أن الاتفاقيات التي تفتقر إلى الضمانات المتينة سرعان ما تتبخر عند أول اختبار ميداني.

وبين ضغوط واشنطن، وحذر حماس، وتوازن القاهرة، تسير التسوية الوليدة على خط رفيع من الواقعية السياسية. لا يوجد في المشهد ما يوحي بسلام قريب، لكنه يحمل إشارات كافية لإعادة فتح الباب أمام منطق «الإدارة وليس الانفجار». فالاتفاق المرحلي ليس نهاية المفاوضات، بل بدايتها الحقيقية، والاتفاق المبدئي ليس سوى استراحة تمنح الطرفين فرصة لالتقاط أنفاسهما قبل الدخول في مفاوضات أكثر تعقيدا.

وفي النهاية يبقى العنوان هو نفسه: الضمان أولا، والتنفيذ ثانيا، لأن كل اتفاق في غزة لا يقاس بما كتب فيه، بل بما صمدت في مواجهة الواقع.

أخبار ذات صلة


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى