
نساء يحفرن بين الأنقاض، ينتظرن إجابة أو صوتًا يأتي من الأسفل، ليخبرن عن أحد الأحياء هنا، وأطفال ينادون رفاقهم دون جدوى، و”كلاب تعقب” ترشد عمال الإنقاذ، وطائرات عسكرية تحوم في المنطقة للمساعدة. يقدمون الدعم والمساندة، والصراخ يعلو فوق أصوات سيارات الإسعاف التي تعمل على مدار الساعة. اليوم. وحدث مشهد مختلف في القرى الجبلية
الأطلس ودوائره، التي كانت مأهولة بسلام منذ عقود، بنوا منازلهم داخل جبالهم ومن الطمي على أيدي الأجداد الذين عاشوا في المنطقة منذ مئات السنين، قبيل منتصف ليل 9 سبتمبر 2023، و وتبعد حوالي 70 إلى 100 كيلومتر عن وسط مدينة مراكش. ضرب زلزال بقوة 7 درجات على مقياس ريختر ولاية الحوز المغربية، فيما تأثرت العديد من المدن والمناطق الأخرى، مما أسفر عن مقتل نحو 3000 شخص. وكانت الحصيلة الأكبر في ولاية الحوز (مركز الزلزال) التابعة لمدينة مراكش. وفي السابعة من صباح يوم 11 سبتمبر، انطلقنا باتجاه منطقة الحوز التي لم تُعرف أسماؤها من قبل. لسوء الحظ، هناك بعض الأماكن التي من المقرر أن تُعرف أسماؤها فقط في المقاطعات. ورغم أن دوارات الحوز تعتبر وجهة سياحية تراثية تم بناؤها منذ قرون، إلا أنها قبل الكارثة لم تكن معروفة حتى لدى بعض المغاربة.
أهوال يوم القيامة
اسم المنطقة التي نشير إليها ظهر في التلفاز ووسائل الإعلام، و”العم سعيد”، رجل مغربي خمسيني من المنطقة، يحفظ تضاريسها الوعرة ودوائرها المتناثرة في عدة أماكن في أعلى قمم الجبال . وكان يجيد التحدث باللغة الأمازيغية، وهي اللغة السائدة بين سكان المنطقة هناك، إلى جانب اللهجة المغربية. وكان علينا الاستعانة به، لتسهيل المهمة، نظراً لكثرة الأماكن المتضررة، والحرية الكاملة للتنقل إلى أي منها دون مساعدة أو عوائق من السلطات المحلية.
وفي الطريق تحدث معي العم سعيد عن طبيعة أهل المنطقة. ولم يتردد في الإشارة إلى بعض المناطق التي تضررت جزئياً، وعرّفني على أسمائها. وحكى لنا لحظات الرعب التي عاشها هو نفسه، رغم أن الزلزال لم يلحق أي أضرار بمنزله في مدينة مراكش، لكنه وصف لحظة خروج الناس إلى الشارع وكأنها أهوال النهار. القيامة.
ولم يكن الوصول إلى ولاية الحوز سهلا، رغم أن المسافة لم تكن كبيرة، إذ تراوحت بين 60 و100 كيلومتر بين مراكش والمناطق المنكوبة. إلا أن الانهيارات الصخرية الناجمة عن الزلزال قطعت الطرق التي كانت أصلاً وعرة بطبيعتها، وزادت من صعوبة وخطورة عبورها، إضافة إلى غياب العلامات الإرشادية في المناطق الجبلية التي تمتد لعشرات الكيلومترات دون مرشد.
وفي أطراف المنطقة، بدت المشاهد مختلفة عما كانت عليه في مدينة مراكش التي تركناها خلفنا على بعد عشرات الكيلومترات.
صرخات الأطفال لم تهدأ بعد. واحد منهم ينادي أمه، وآخر ينادي أباها، وثالث يصرخ بأسماء إخوته… لكن الجواب ليس أكثر من عودة الصدى. أمي، أبي، أخي… صرخات تمزق قلوب القلوب، لكنها لا تستطيع اختراق جدران المنازل المنهارة فوق رؤوس أصحابها إثر الزلزال. الجدران التي أغلقت على أجسادهم حتى ماتوا. بعض القصص دفنت تحت الركام، فيما استقر بعضها الآخر في ضمائر الناجين، وتحولت إلى حكايات توجع القلب، تذكر بلحظات الذعر والخوف في الظلام الحالك، التجربة التي غيرت أحوال سكان المنطقة. أطلس في بضع ثوان فقط. حراس الجبال لعدة قرون.
خيام بدائية ومجهزة
إذ دخلنا الحدود الإدارية للمنطقة عبر الطريق المؤدي إلى منطقة “طلعة يعقوب”؛ الأكثر تضرراً، رأينا عشرات العائلات على الأرصفة، في مناطق مختلفة، خيم بدائية، وأخرى مجهزة، وأطفال لم يستيقظوا بعد، ونساء يرتبن الفرش ويفرشن الملابس على الحبال الممتدة بين أغصان الأشجار. وكان بعضهم يحمل الأطفال الناجين على أكتافهم، والبعض الآخر كان يحاول تهدئة الأطفال الذين ماتوا. أمهاتهم على قيد الحياة أو ما زلن تحت أنقاض المنازل.
توقفنا في عدة مناطق وتحدثنا إلى الأشخاص الذين تأثروا ماليًا، أو الذين فقدوا أحد أفراد أسرهم. ورغم بساطة الوضع وفقدان المنازل، ملجأهم الوحيد، إلا أنهم لم يجيبوا على أسئلتنا وتحدثوا بصبر وإصرار وإيمان ليس من معهود مثل هذه الكوارث.
وفي منطقة تحناوت، نامت عشرات العائلات على الرصيف بعد انهيار معظم المنازل وتصدع الباقي. استيقظ الأطفال واجتمعوا حول امرأة تحضر إفطارًا مغربيًا يتكون من الحريرة كطعام، والأتاي أو الشاي. وبجانبهم يجلس ثلاثة رجال أنهوا للتو نوبة عملهم، وهم يحرسون خيام الأطفال والنساء ليلاً، خوفًا من أي ضرر.
وبجانب خيمة الإفطار توجد خيمة أخرى مخصصة لتخزين المساعدات الغذائية والمعيشية التي أحضرها الناس والسلطات في اليوم التالي للكارثة. لكن المنكوبين ما زالوا يفتقرون إلى العديد من الاحتياجات الحيوية، كما أخبرونا. تقول فتيحة خمسينية من منطقة تحناوت: فقدنا كل شيء، المنزل وكل ما فيه، وتمكنا من الهروب من المنازل في لحظات مرعبة. وتؤكد فتيحة في حديثها أن كل ما يخشونه هو العيش في الخيام حتى إعادة إعمار المنزل، خاصة مع قدوم… فصل الشتاء القاسي على هذه المناطق.
رائحة الموت في كل مكان
“ثلة يعقوب”… القرية التي كانت هنا. وبعد أكثر من ثلاث ساعات بين سلاسل جبال الأطلس وصلنا إليها.. وهنا رائحة الموت تعم المكان. البعض يقول إنها رائحة الماشية التي ماتت تحت الأنقاض، والبعض الآخر يقول إنها رائحة الجثث المتحللة.
وهنا، كل ما تبقى من عشرات المنازل هو بعض من معالمها، نحو أربعة أبنية قائمة جزئيا بعد انهيار أساساتها، يعلو أحدها العلم المغربي. هشاشة المواد التي بنيت بها المنازل في الماضي، حولتها إلى حفنة من التراب الهش، مثل أرض زراعية تحرث بفأس الفلاح. ووسط الركام كانت هناك أحذية بأحجام مختلفة، وألعاب أطفال ملطخة بدمائهم، وملابس مكدسة وأخرى متناثرة، وكتب لمختلف المراحل الدراسية، وكتاب جغرافيا فتحت صفحته الصلبة على خريطة المغرب. بعض الكتب لا تزال صفحاتها مفتوحة، في انتظار، ربما إلى الأبد، حتى تنهي اليد الصغيرة واجباتها المدرسية وتسود صفحاتها. ولسوء الحظ، دُفنت الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ تحت أنقاض المنازل التي كانت ذات يوم مليئة بأرواح ساكنيها.
ومن بين المباني التي انهارت والتي أصبحت على وشك الانهيار في أي لحظة، يواصل رجال الإنقاذ عمليات البحث باستخدام كلاب التتبع المدربة للكشف عن أماكن الجثث أو الناجين، خاصة في المواقع التي يتم إبلاغ السكان فيها بوجود ضحايا تحتها. ومن زاوية أخرى للمشهد، كانت النساء جالسات داخل الخيام، وأعينهن يغشاها حزن فاق كل حدود الحزن والأسى. أطفال يدعون أمهاتهم دون أن يتلقوا إجابة، بنات يدعون أخواتهن لكن لا أحد يجيب، رجال يبكون على أطفالهم ويتذكرون آخر صور ولحظات الرعب، وسط شعور بالعجز عن إنقاذهم قد يبقى معهم مدى الحياة بقية حياتهم.
خديجة تنتظر أطفالها
فوق أنقاض المنزل تجلس خديجة (38 عاما)، منكسة الرأس، وعيناها دامعتان، ترتدي ملابس الحداد السوداء، حافية القدمين، مندهشة من بقايا ملابس أطفالها وكتبهم وألعابهم.
وهنا كانت اللحظات الأخيرة التي جمعتهما، قبل أن تغادر منزلها إلى منزل جارتها، تاركة الصغيرين في سريرهما، عندما فاجأهما الزلزال، وهي في الشارع.
وروت خديجة المشهد بصوت متقطع قائلة: فجأة اهتزت الأرض تحتنا والسماء فوقنا. عدت بسرعة إلى المنزل الذي كان يبعد عني عشرات الأمتار، لكنه انهار قبل أن أصل إلى طفليّ الاثنين.
ظلت تنبش الركام وتصرخ وتحاول رفع الحجارة التي بني منها المنزل منذ عدة سنوات، لكنها لم تتمكن من إنقاذهم، وماتوا في دقائق معدودة، بينما كان الجميع إما يحاول إنقاذ نفسه أو عائلتهم. ولم تتمكن من إنقاذ طفليها الأول زكريا 11 عاما، وكمال 9 سنوات.
ينتاب خديجة شعور لا تستطيع وصفه، إذ تقول: أنا التي تركتهم. أتمنى لو كنت بجانبهم. لقد فديتهم بروحي. أنا من تسببت في وفاتهم لأنني تركتهم قبل وقوع الزلزال.
الحسن… فقد كل أفراد عائلته
مع أنفاسه الأخيرة بين البيوت المنهارة، وجدته يتجول، يحدق عن قرب بين الركام، وعيناه حزينتان على مدى سنوات من الألم. اقتربت منه بهدوء وأخبرته أننا نريد التحدث معه. لم يكن يريدنا رغم ما عانى منه. يستذكر الحسن بودي، الرجل الخمسيني من منطقة ثلاسا يعقوب، المشاهد التي عاشها في لحظات قليلة. سبقت دموعه حديثه، وسيطرت تنهدات الألم على صوته وهو يقول: “أبي وأمي وخواتي والعيل مشوا عليا. الدراري (الأولاد) والجميع مشوا إلي”. وصمت الحسن لفترة بعد أن غلبته الدموع وفقد صوته. قال: في اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، نهضت لأخرج أطفالي من المنزل، لكن الجدران لم تمنعنا. لقد انهاروا على الفور وكان نصفي خارج المنزل. أمسك والدي بقدمي، وتشبث بي وتوسل لي المساعدة: “أنقذني”، لكنني لم أستطع. لقد انهار المنزل فوق الجميع، وعندما تمكن الأهالي من إخراجي وإزالة الركام مني، كان قد توفي مع جميع أفراد الأسرة. وأضاف: صوت والدي ما زال في أذني وكلمته الأخيرة “أنقذوني” تتردد.. لم أتمكن من ذلك، لا أستطيع وصفه. المشهد، قلبي ينفطر كل يوم وكأن والدي لا يزال متمسكًا بي أينما جلست أو مشيت. ويصف الحسن المشهد: انهارت جميع المنازل، ونجا البعض، خاصة من كان خارج المنازل، يحاول إنقاذ الجميع، يركض يمينًا ويسارًا، مستجيبًا لنداءات الاستغاثة المختلفة في أرجاء المكان. من يخرج من تحت الركام ملطخاً بالدماء، يحفر بيديه ليخرج ممن تحت الركام، يتسلل إليه صوت التنفس. الأخير للأطفال الصغار والأمهات والشباب، في أعماق الظلام والظلام. ليلة هادئة وخاصة بعد انقطاع التيار الكهربائي. نداءات من بقي لساعات تحت الأنقاض دون أن يتمكن من إنقاذهم لا تزال عالقة في ذهن الحسن الذي يشعر بالعجز بسبب عدم قدرته على إنقاذ عائلته وجيرانه. يعيش حالة من الانهيار تشبه تلك البيوت التي عادت إلى شكلها الأصلي.. تراب وحجارة متناثرة على سطح الأرض. لم يكن الحسن الوحيد الذي فقد عائلته بأكملها.. ولعلها ليست القصة الأكثر إيلاما.