البندول السجان

وبينما كان الشفق يشير إلى قدوم المساء وتحول الظلال الشفافة نحو كثافة الغسق واندمجت تدريجياً في ظلام واحد انتشر وتسلل عبر نوافذ المباني، بدا بندول الساعة، الذي يتأرجح خلف الزخارف الصامتة، مرتفعاً بما فيه الكفاية ليقاوم الخدر الذي سيطر على البيت وينشر إرادته في جوانبه.

كانت عينا سراج الغائرتان خلف تجاعيد جفنيه تراقبان ببريقهما البارد الأقواس التي يرسمها البندول في فضاءه الضيق، تراقبان إيقاعه شبه المنتظم، ومثابرة نصله العاجي في عد الثواني، ومهارته في عد الثواني. التهرب من الجاذبية.

وبدا أنه لا يوجد شيء ينافس الرنين الذي يثقب أذنيه منذ ساعات سوى صوت البندول الدقيق، وأنه لا يوجد شيء يثير الاهتمام سواه، فأرخى سمعه.

سراج الذي قارب الخمسين من عمره وما زال محتفظًا بوجهه المشرق، أضاف تجاعيد رقيقة بدت ساحرة، وحوّل ابتسامته إلى اقتباس جميل بين الأقواس العميقة لتجاعيده، كان يقف مقابل الحائط كتمثال من السيراميك، يوجه عينيه نحو الآلة الخشبية، وفي لحظة استدعته الفكرة الفرعونية في اكتشاف المرض. وبتمرير البندول فوق جسم المريض يقترب منه.

أراد أن تكون روحه على شكل فراشة حتى يتمكن من الاستلقاء تحت سيفه، وهو تقاطع بين المعرفة والخيال. وهذه ليست آلة لقياس الزمن فحسب، بل إنها تقيس الهالة الكهرومغناطيسية المنبعثة من روحه، هكذا كان يعتقد.

نفث دخان سيجارته نحوها، فرأت في تموجاتها هالة صغيرة تبدو وكأنها شعور يتقلب من لحظة إلى أخرى، لكنه سرعان ما يختفي مثل الدخان.

ولم يتوقف البندول عن الدفع اليوم، الذي أنهكته وأثقلته شيخوخة الزمن، نحو الغد. لقد بدا شابًا وقادرًا على الجري وتقسيم الوقت إلى ثوانٍ صغيرة تهزم نفسها بنفسها. وبخلاف إصراره على مرور الوقت، لم يكن هناك ما يشير إلى ذلك.

والحقيقة أنه لا يمكن إحصاء اللحظات التي تتدفق في الأزقة وتتسرب من النوافذ في مروحة تافهة. والثانية ومضة عابرة من حدث وذرة شعور وليست وحدة لحساب الزمن. إنه جزء محدد من الشعور بالخوف أو الحزن أو الألم. قد يكون خيبة أمل أو شعور. وفي الوحدة قد يكون أي شيء غير الزمن، والبندول هو اللغة الخادعة والتمثيل المجازي لذلك. ألم يقل أينشتاين أن “الزمن نسبي، فهو يتوسع وينكمش؟” ألم يؤكد أغسطينوس أنه شعور داخلي؟

لم يبدو البندول مهتماً بتأمل سراج، ولم يهمه أن يظن أن خيالاته لا قيمة لها إلا إذا وصفت شعوراً.

يتوسع الطنين ويصدر صوتًا كصدى كائن صغير كان يسبح في الفضاء لكنه علق في مكان ما، ويمتزج نموه بصوت البندول، وفي انعكاس الضوء الشفاف يبدو أنه في حجرة البندول هناك ظلال لجسم غامض، إحساسه له معنى خارق خاص به جعله يرقد تحت البندول كجسم مريض.

أغمض عينيه وتساءل كيف سيملأ هذه الحفرة العميقة في روحه. كان يحتاج إلى حلم ليغلقه أمام عاصفة الرتابة التي مرت به واستمرت في كشف أضلاعه. كان يشعر دائمًا بالفراغ مع توسعه لتوسيع نفوذه على محيطه. لقد أراد بشدة أن يكون هناك شيء يعيش من أجله، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يكون فريدًا. مختلفة عن السائدة،

خموله غير المنتظم كان بسبب المبالغة فيه ولكن دون طموح واضح. وكانت خيباته تتوالى وتتتابع، لتقتلع رغبته في الحياة.

وما زال الطنين يلفت انتباهه ويملأ أذنيه، وأراد للحظة أن يسكته بيديه، لكن فضوله الذي بدأ يكبر، منعه من ذلك.

كيف يمكن لهذا المخلوق الخشبي ألا يتعب من التجوال؟ كيف يمكن أن يستمر في كسله دون أن يلاحظ أن حصاد الوقت يطير كالقصاصة أو الرماد؟

ولمدة عشرين عاما، كانت حياته على وشك الانهيار، وظل يناضل من أجل منعها من السقوط، لكن جهوده لم تثمر. أينما نظر وجد أحلاماً متشظية، وتوقعات متشظية، وشعوراً بالفراغ يتسع ليمارس نفوذه على روحه. شعور الاستسلام الذي هرب منه طويلاً استطاع أن يتمسك به، وبدا مراً ومؤلماً وضيقاً ويستحيل الهروب منه.

شعر بالملل وبدأ يملي عليه رغباته، ولم يجد خيارًا سوى إشباع فضوله. إن مشاهدة هذه الحركة يشبه السير خلف جنازة في طريق لا ينتهي، بل هو عميق بما يكفي ليتجاوز عينيه إلى رأسه. هل هو التخاطر؟ وربما، عندما لم يعد صبورا، اقترب ليتفحص البندول، فتزايد صوت الطنين وبدا وكأنه يصدر من غرفته. اقترب أكثر ليوضح الأمر، وعندما نظر داخل الغرفة رأى في ظلامها فراشة ذات أجنحة رخامية ونقاط زرقاء تومض بتكاسل، محاصرة تحت البندول وهي تتباطأ، تمنعها من الخروج.

وخطر في باله كم كانت تشبهه. كانا كلاهما مقيدين، هي بسبب خوفها من ذلك الجبل العاجي الذي يحوم فوقها مثل المقصلة، وهو بسبب خوفه من الفشل النهائي.

مد سبابته نحو البندول وأوقف حركته، ثم حركه جانبا، مما أتاح لها مساحة تستطيع الخروج من خلالها. بمجرد أن فعل ذلك، رفرفت أجنحتها وطارت للخارج، هاربة من قبضة البندول. وحينها هدأ الطنين، وشعر سراج برئتيه تتسعان، لكنه تذكر أنه كان لا يزال سجينًا في تلك اللحظة، قبل سنوات. كان يرغب في التحرر منه.




مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى