
لعقود طويلة، ظن البعض منا أن دراسة الفلسفة هي إفساد للثوابت، واتخذوا موقفا حادا في وجه كل من يتلفظ بفكرة فلسفية. بل إن البعض تجرأ على وصف «أم العلوم» بـ «أم الأوهام» لأنها تغرق قارئها وباحثها في دوامة من الأسئلة التي لا نهاية لها. وربما كسرت الثوابت كما تصوروا، فيما اتهمها البعض بالتآمر على الدين، لكن خلال سنوات قليلة أصبحت الفلسفة جمعية، وعقدت لها مؤتمرات، لن يكون آخرها مؤتمر الرياض، وهو اعتبر الثالث، فتجذر المشروع الفلسفي، ولم يعد هناك مجال للعودة إلى الوراء. وظهرت مجموعة من المعارضين لتنحاز إلى أطروحات ابن رشد والفارابي وابن سينا، وسارع عدد من مقاتلي “أم العلوم” للانضمام تحت رايتها، وهذا من علامات الوعي . المعرفة تعزز الروحي والعاطفي، والعقل أساس التكليف، والمعرفة هي الأساس والمنطلق للعبادة الواعية، ولإدراك أبعاد ما وراء الظواهر، والحد منها أسطورة، وبينما وزارة الثقافة، هيئة الآداب، والجمعية الفلسفية بادرتا إلى مشاريع، ومحاولات «التعليم» لا تزال خجولة ودون المستوى المأمول. وهذه محاولة استقرائية من خلال رؤية الباحثين والمتخصصين حول سبب تغير الموقف والممارسات، وتوضيح مستقبل الفلسفة في المجتمع السعودي.
ويرى الباحث في الفلسفة حمد الراشد أن الفلسفة أصبحت أم العلوم كلها، وظهرت مصطلحات جديدة منها فلسفة العلم، وفلسفة الفن واللغة والتفسير، وفلسفة الأخلاق، مؤكدا أن العقل هو العقل. أساس التنوير، ويطمح إلى تعزيز مقررات ومناهج الفلسفة في «التعليم»، بما في ذلك «التفكير النقدي». »، آملاً في تشجيع الطلاب والطالبات على القراءة بحرية. ورحب الراشد بالمزيد من المؤتمرات التي تطرح رؤى حول المشروع الفلسفي، دون قلق، ولا تبنى على فكرة الصراع بين الدين والعلم، أو التنافر والتنافس بين الدين والفلسفة، مؤكدا أنه لا علم يحل محل العلم، و ولا توجد فكرة تطرد اعتقادًا، وتفضل الفلسفة في تعزيز الجانب الأخلاقي. وتصحيح مسار التدين بالعقل والمنطق، دون المساس بجوهر الدين، مشيداً بالتحولات التي أنجزتها المملكة والتي أتاحت جمع النخب وتوسيع نطاق النقاش دون الريبة. “أم العلوم.”
ويرى أستاذ الفلسفة في جامعة طيبة الدكتور حسن الشريف أن الفلسفة في المملكة واجهت عدة تحديات مع مرور الوقت، أبرزها “التحدي الثقافي الديني”، إذ كان يُنظر إلى الفلسفة على أنها حقل معرفي معارض للدين، بحسب إلى تفسيرات معينة في التراث الإسلامي تمتد إلى تاريخ يعود إلى عصر الإمام الغزالي. ويؤكد أن هذا الرأي أثر على التعليم العالي في المملكة، مما أدى إلى غياب أقسام الفلسفة في جامعاتنا، ما جعل المملكة من الدول القليلة جداً في العالم التي تفتقر إلى أقسام الفلسفة في جامعاتها، كما أشار تقرير اليونسكو عن حالة الفلسفة في العالم.
وأوضح الشريف أنه مع انطلاقة رؤية 2030 تغيرت الأمور، ولم يعد التحدي الثقافي الديني بارزا، بل ظهر نوع جديد من التحدي، يتمثل في التحدي الاقتصادي للتعليم، الذي يركز على قيمة مجالات المعرفة حسب مساهماتهم في سوق العمل، ونتيجة لذلك تجد ذلك يبرر تهميش التخصصات. الإنسانية عامة والفلسفة خاصة بحجة عدم توافقها مع سوق العمل.
وأضاف: في رأيي قد تبدو هذه النظرة سطحية تجاه سوق العمل وتجاه تدريس الفلسفة على حد سواء، فسوق العمل لا يهتم فقط بالاحتياجات المادية للإنسان، بل أيضاً بالاحتياجات المعنوية للإنسان، باعتباره إنساناً صاحب أفكار ورؤى للحياة والوجود، مؤكداً أن تدريس الفلسفة يساهم في تنمية المهارات. التفكير الناقد والأخلاقي لدى الطلاب مما تزداد أهميته مع مرور الوقت في سوق العمل.
وأوضح أنه بعقد مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة للمرة الثالثة، واعتماد برنامج خاص لمنح البحوث الفلسفية تحت إشراف المركز السعودي للفلسفة والأخلاق، فإن أقسام الفلسفة لا تزال غائبة عن جامعاتنا، وهو ما يعكس عدم وجود الطريق الأمثل للتغيير. والتي تبدأ بإنشاء أقسام الفلسفة، تليها برامج المنح البحثية، ثم المؤتمرات، مشيراً إلى أن تقاطع هذه المفارقة يمكن تفسيره بتداخل الأدوار في المجال الفلسفي بين وزارتي الثقافة والتعليم. ويبدو أن وزارة الثقافة أكثر تقدماً في التعامل مع الفلسفة، ويأمل الشريف أن تحذو وزارة التعليم حذوها وتتخذ خطوات نحو إنشاء أقسام خاصة بالفلسفة في التعليم العالي السعودي حتى يتسنى إطلاق المشروع الفلسفي في بلادنا. البلد الحبيب.
فيما أكد عضو المركز السعودي للفلسفة والأخلاق هشام السلمي، أنه مع انطلاق النسخة الثالثة لمؤتمر الفلسفة للعام 2023، تجاوز المجتمع السعودي مرحلة القلق التي عاشها في مرحلة تاريخية حرجة. وهي الظرف الذي أنتج فئات اجتماعية منتسبة إلى حركات إسلامية تواجه أي مشروع حداثي يتبنى أي نشاط فلسفي أو مشروع فكري. وهو يختلف عن كونه أعلى صوت للخطابات التي تحارب العقل، وتتبع نهجا تعسفيا وعقائديا، وتخلق قطيعة معرفية مع تراثنا العربي والإسلامي، مما أدى إلى حساسية دينية وثقافية ساهمت في تعطيل ثقل المملكة العالمي، وثقلها العالمي. التراث والعمق الفكري والإسلامي.
ومن غير المتوقع أن يتغلب المجتمع ويستجيب بهذه السرعة، إلا أن توفر الإرادة السياسية سرع وتيرة مشاريع ومبادرات الانفتاح على العالم، وعزز الحضور الفعلي والأصيل على الخريطة الفكرية والفلسفية، إيمانا بأهمية الانفتاح على العالم. رسالة إنسانية وقيم أخلاقية راسخة.
وكما قال رئيس جمعية الفلسفة الدكتور عبدالله المطيري فإن الدورة الثالثة لمؤتمر الرياض العالمي للفلسفة تؤكد أن التحول الاجتماعي والثقافي السعودي عميق ومدفوع برغبة وإرادة اجتماعية حقيقية في الحراك المستمر من أجل المجتمع الفلسفي. من أجل التواصل الإنساني المفتوح والتغلب على العقبات الثقافية. ويوفر المؤتمر، كما شهدنا في الدورتين السابقتين، ملتقى مفتوحا بين المجتمع الثقافي السعودي والنخب الفلسفية العالمية، يعول عليه في تعميق التواصل الإنساني العميق بشكله الفلسفي هذه المرة. إن كرم الضيافة والترحيب السعوديين يجد قبولا واستجابة عالمية بهيجة، وهذه مسؤولية كبيرة علينا في المجال الفلسفي لخلق المزيد من الفرص للاجتماعات والمشاركة المحلية والدولية.