
واليوم نواصل الوقوف مع كلام الإمام القرطبي في تفسيره المعروف بـ “جامع أحكام القرآن وبيان ما فيه من السنة والفرقان”، ونقرأ ما قاله وقال في تفسير سورة البقرة في الآية 15 (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم).
يقول الله تعالى: الله يستهزئ بهم، أي ينتقم منهم ويعذبهم، ويسخر منهم ويجازيهم على استهزائهم. فسمي العقوبة باسم الخطيئة. وهذا رأي جمهور العلماء، والعرب يكثرون استعمال ذلك في كلامهم، كقول عمرو بن كلثوم. :
ولا يجهل علينا أحد، فجهلنا فوق جهل الجاهل
[ص: 201] فسمى انتصاره جهلا، والجهل ليس شيئا يفتخر به عاقل. بل قالها لمضاعفة اللفظين، فيكون أخف على اللسان من التناقض بينهما. ولما استخدمت العرب كلمة مقابلة لكلمة جوابا لها ومكافأة، ذكروها بمثل لفظها، وإن اختلفت عنها في معناها، وعلى هذا جاء القرآن والسنة. .
قال الله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها، وقال: من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، وليس الجزاء سيئة، وليس القصاص باعتداء. ; لأنه حق وواجب ومثله: وَلَقَدْ مَكَرَوا وَمَكَرُوا عَلَى اللَّهِ وَمِكَرُوا وَمِكْرُوا وَلَكِنَّهُمْ يَكْيدُونَ وَإِنَّا لِلَّهِ مُسْتَهْزِئُونَ. ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يمل حتى تملوا، ولا يمل حتى تملوا. وقيل: حتى بمعنى الواو، أي وتمل. وقيل: المعنى بينما تمل، وقيل: المعنى لا يمنعك أجر أعمالك حتى تتوقف عن العمل، وقال بعض الناس: إن الله عز وجل يفعل بهم أعمالا لا يعقلها الإنسان. ، هي استهزاء وخداع وخداع، على ما روي: (إن النار تتجمد كما يتجمد الدمار، فيمشون عليها ويحسبونها نجاة فتكسفهم). روى الكلبي عن عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا إنهم منافقون أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزائهم، وأنه إذا فقد خلوا مع شياطينهم، أي أئمتهم في الكفر، وعلى ما تقدم قالوا: نحن معك في دينك. إنما نحن نسخر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وسخرهم الله في الآخرة وفتح لهم باب جهنم. الجنة، فيقال لهم: هلموا فيسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك – وهي الأسرّة – في الغرفات ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى الباب سُد عليهم. فيضحك منهم المؤمنون. وذلك قول الله عز وجل: الله يستهزئ بهم، يعني في [ص: 202] في الآخرة ويضحك منهم المؤمنون إذ أغلقت أمامهم الأبواب. وذلك قوله تعالى: اليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون إلى أصحاب الجحيم. أهو لباس الكفار بما كانوا يعملون؟
قوله تعالى: ويمددهم أي يمد لهم الأجل ويمهلهم ويملي عليهم، كما قال: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، وأصله. هو زيادة. وقال يونس بن حبيب: يقال: «أمدهم في الشر»، و«أمدهم في الخير». قال الله تعالى: “وأمددناكم بأموال وبنين”، وقال: “ورزقناهم من الثمرات”. ولحما مما يشتهون، وعن الأخفش: أمددته إذا تركته، وأبسطته إذا أعطيته، وعن الفراء اللحياني : مددته وزيادته مثلها . وقيل: النهر مده، وفي الوحي: والبحر مده من بعده سبعة أبحر، ومدته، وكانت زيادته من غيره، مثل قولك: أمدت الجيش بالمؤن، ومن عليه: ويمددك ربك بخمسة آلاف من الملائكة وبسط الجرح؛ لأن المدة من شيء آخر، أي أنها صارت فترة.
قول الله تعالى: في طغيانهم: كفرهم وضلالهم، وأصل العدوان تجاوز الحد، ومنه قوله تعالى: إن الماء فاض أي ارتفع وارتفع فوق مقدار الخزان. وقد قدر، وقوله في حق فرعون: “إنها كانت فاضت” أي كانت مسرفة في دعواها، كما قال: أنا ربكم الأعلى. .
[ص: 203] ومعنى الآية: يمد في أعمارهم حتى يزدادوا طغيانا، فيزيدهم العذاب.
يقول الله تعالى: يعمى ويعمى، وقال مجاهد: أي يترددون ويتحيرون في الكفر، وقال أهل اللغة: عم الرجل يعمي عمها وعمه فهو عمه. وعمه إذا احتار، ورجل من أعمامه العموميين يقال له: حائر متردد، وعمه يجمعها، وعمت ناقته إذا لم يدر أين ذهبت. إن العمى في العين، والعمى في القلب، وفي الوحي: فإنه لا يعمى الأبصار، ولكنه يعمى القلوب التي في الصدور.