
واليوم نواصل الوقوف مع كلام الإمام القرطبي في تفسيره المعروف بـ “جامع أحكام القرآن وبيان ما فيه من السنة والفرقان”، ونقرأ ما قاله قال في تفسير سورة المؤمنون من الآية 1 إلى الآية 5: “لقد أفلح المؤمنون الذين في صلاتهم خاشعون”. “وأولئك الذين هم مهتمون معرضون عن اللغة، والذين يريدون الزكاة هم العاملون، وأولئك هم فروجهم حافظون.”
يقول الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين يؤتون الزكاة والذين هم فروجهم حافظون. وفيه خمس مسائل:
الأول: قول الله تعالى: لقد أفلح المؤمنون. وروى البيهقي من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لما خلق الله جنة عدن وغرس شجرها بيده قال لها: «تكلم» فقال: أفلح المؤمنون./ روى النسائي عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. – يوم الفتح وصلى أمام الكعبة. فخلع حذائه ووضعهما على يساره. افتتح سورة المؤمنون . فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذه السعال فركع. ورواه مسلم بمعناه، وفي الترمذي عن أبي هريرة [ص: 96] قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع مثل صوت النحل قبل وجهه. فنزل إليه ذات يوم، فأقمنا ساعة، فانصرف عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وارض عنا، و كن سعيدا معنا. ثم قال: انزلوا علي عشر آيات، من قامهن دخل الجنة. ثم قرأ: وقد أفلح المؤمنون حتى أكمل عشر آيات. وصححه ابن العربي، وقال النحاس: معنى الذي أقامها هو الذي أقامها ولم يخالف ما فيها. كما يقال: فلان يعمل عمله. ثم نزل بعد هذه الآيات وجوب الوضوء والحج، فدخل معهم، وقرأ طلحة بن مصرف: لقد أفلح المؤمنون بإضافة الألف إلى الفعل المجهول. أي البقاء في الأجر والخير، وقد سبق في (البقرة) ذكر معنى الفلاح لغة ومعنى، والحمد لله وحده..
الثاني: قول الله تعالى: (هم متواضعون) روى المعتمر، عن خالد، عن محمد بن سيرين، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر في السماء أثناء الصلاة؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية على الخاشعين في صلاتهم، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر أين يسجد. وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله عز وجل: قد أفلح المؤمنون الذين في صلاتهم خاشعون. ; فبدأوا صلاتهم وبدأوا ينظرون أمامهم، كما تقدم معنى التواضع لغة ومعنى في البقرة كذلك عندما قال الله تعالى: إن الأمر لكبير إلا على الخاشعين والمقام التواضع هو القلب. فإذا تواضع تواضعت جميع الأعضاء لتواضعه. لأنه ملكها كما بينا في أول البقرة، والرجل من أهل العلم إذا أقام الصلاة وقام. [ص: 97] إليها يخشى الرحمن أن يمد بصره إلى الشيء ويحدث نفسه بشيء من الدنيا، وقال عطاء: ولا يعبث بشيء من جسده في الصلاة، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: عليه الصلاة والسلام – رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت أعضاؤه، وقال أبو ذر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – – قال: «إذا قام أحدكم يصلي استقبلته الرحمة، فلا تحركوا الحصى». رواه الترمذي، وقال الشاعر:
إلا الصلاة ففيها كل خير وفضيلة، فإن بها تخضع القلوب لله وهي أول واجبات شريعة ديننا.
وآخر ما يبقى هو عند رفع الدين. من وقف ليقول “الله أكبر” يرحم
كان كالعبد يطرق باب سيده، فيصبح صاحب العرش إذا دعا
لقد تم إنقاذه. طوبى له إذا كان متواضعا
وروى أبو عمر عن الجوني قال: سئلت عائشة: ما كان خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: أتقرأ سورة المؤمنون؟ قيل: نعم، قالت: اقرأ؛ فقرأ عليها: لقد أفلح المؤمنون حتى وصل إلى حد الحفظ. وروى النسائي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينظر في اليمين واليسار صلاته، ولا يلوي رقبته خلف ظهره. قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أدنو منه -يعني إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- وأسرق بصره. فإذا قربت من صلاتي نظر إلي، وإذا توجهت إليه انصرف عني. . . الحديث؛ ولم يأمره بإعادة ذلك.
الثالث: اختلف الناس في التواضع. هل هي من فرائض الصلاة أم من فضائلها ومكملاتها؟ هناك رأيان. القول الأول الصحيح: أنه يكون بالقلب، وهو أول العلم الذي يرفعه الناس. قاله عبادة بن الصامت. ورواه الترمذي من حديث جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، وقال : هذا حديث حسن غريب . ورواه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي عن صحيح. قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة من أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه إلا يحيى بن سعيد القطان.
الرابع: قول الله تعالى: والذين هم فروجهم حافظون. قال ابن العربي: ومن الغريب في القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في حق الرجال والنساء، كسائر كلمات القرآن التي يحتملها، فهي عامة فيها. إلا قوله: “والذين هم فروجهم حافظون” فإنه خص الرجال دون الزوجات. إلا أزواجهن أو من ملكت أيمانهن، ولكن المعلوم أن المرأة يجب أن تحفظ عورتها من الأدلة الأخرى، كآيات العفة عامة وخاصة وغيرها من الأدلة. قلت: وعلى هذا التفسير للآية فإنه لا يجوز للمرأة أن تجامع من يملكها باتفاق العلماء؛ لأنها غير داخلة في الآية، لكن إذا أعتقته بعد أن تملكته جاز له أن يتزوجها، كما يجوز لغيرها على الأكثر، وروي عن وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته لكان بعضهم من بعض. قال أبو عمر: ولم يكن يقول بهذا أحد من فقهاء مصر؛ لأن ملكيتها لهما يبطل الزواج بينهما، وليس ذلك طلاقا، بل فسخا للنكاح. وإذا أعتقته بعد أن ملكته لم يرجعها إلا بنكاح جديد، ولو كانت في عدة. .
الخامس: قال محمد بن الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز يقول: سألت مالكاً عن رجل جلد عميرة، فتلا هذه الآية والذين يحافظون فروجهم – على قوله – فاسقون، وذلك لأن يحمون الذكر من عميرة.