«حزن النخيل» استشعر رحيل «الدميني» قبل وفاته

«1»

إن نشر ديوان علي الدميني الأخير بعد رحيله جعل منه حدثا شعريا وثقافيا لا يقل أهمية عن كل دواوينه الخمس التي صدرت في حياته الأدبية الخصبة. والفضل في ذلك يعود إلى رفيقة عمره الأستاذة الأدبية فوزية العيوني التي أرادت أن تقول إن علي لم يمت، إنه حي بيننا ولا يزال على قيد الحياة. يرتشف ماء الشعر المتدفق بين ضلوعه رغم الألم الذي أصابه في أشهره الأخيرة، ويكتب بنفس الوعي الجمالي والمعرفي حتى لحظاته الأخيرة لأن شعلة الشعر جوهرة لم يخفت جمراتها حتى الموت. النفس الأخير.

«2»

كأنه في مجموعته هذه كان يشعر بالرحيل، وحنينه للطفولة وذكرياتها، وشوقه للأصدقاء والأماكن المنقرضة. معظم قصائده جاءت في سياق الفقد…الغياب، ومرارة العزلة، وقلق نفس الشاعر، وسؤال الشك القادم من «مجازيات اللحظة المحترقة»:

“لم أعد أعرف ما إذا كنت هنا مكتئبًا مثل كسوف الشمس

أم مبتهجًا كالورد يخرج من أكمامه في المكتبة؟

وتتجلى صور الفقد والغياب بوضوح في نص قصائد هذا الديوان، كما أن موضوع الفقد الكبير في تجلياته الخاصة والعامة هو إحدى سمات التجربة الشعرية لشاعرنا الراحل.

والحقيقة أننا نستشعر في قصائده الأخيرة حالة من الفقد الحدسي الميتافيزيقي الغامر النابعة من فيزياء الألم، التي يستبقها شاعرنا الكبير ويراها برؤية العين ببصيرته الواعية، رفيقاً له في تجربته الشعرية، وحرفته، وقالت فوزية أبو خالد عندما وصفت قصائده الأخيرة والهمس فيها: «هناك قصائد تستبق أو تستشعر الوداع بكل أنواعه. “..وهذا بالفعل ما نراه في معظم قصائد الديوان التي تحتوي على حزن خالص وسامي. إنها رعشة الغياب وألمها الذي نشعر به ساخنا، يسري في نفوسنا، يتلألأ ببريق العين عندما نقرأ قول الشاعر في أحد الصباحات في زمن كورونا:

“غدا سوف يفتقدنا المنزل

وغرفة العائلة

والنوم

والطاولة.

غداً ستنكر علينا واجهات الشوارع…”

«3»

لا نستطيع أن نفهم المعنى الضمني في قصيدة علي الدميني ونصل إلى حدود استعاراته وعمق استعاراته وصوره إلا إذا قرأنا القصيدة أكثر من مرة، أو بالأحرى عدة مرات، متشبعين بلغتها وصورها ومعانيها. إذ يتأرجح شاعرنا في قصائد ديوانه الأخير بين النثر والأوبرالي… بين الخيالي والكناية. والقصاص بل علي شاعر ناشط بامتياز يجد في هذا التعبير الشعري روحا جمالية متدفقة في النص وقالبا رؤيويا يستطيع من خلاله الوصول إلى تكوينات وعي القصيدة ورؤاها ومجازاتها، وهو والذي قال عنه:

«لقد منحتني الطفيلة مناخًا لتجربة تعدد الأصوات وزوايا الاقتراب من الحالة الجمالية وفتحت الباب للتعايش والاختلاط بين الأساليب الشعرية المتعددة التي تجمع بين العمودي والحر والنثر والشعر الشعبي، من أجل خلق تجربة لا تقوم على شعرية القصيدة وحدها، بل على شعرية النص.

وكأن هذا النص القصير له يشتعل على إيقاع الطفيلة وموسيقاها الراقصة:

“كان الأمر كما لو أن المساء قد انقلب مع عصفورين نثرا شعرهما ثم اشتعلتا في النار

وكان يتدفق مثل نهر رقيق مثل هذا الحضور الكامل … “

ولعلي أقول إن الموسيقى والمجاز التنشيطي هما أساس الخطاب الشعري ومصدره عند علي الدميني من خلال قراءاتي لأشعاره السابقة، وحتى أشعاره في هذا الديوان، كما يقول الشاعر المصري الراحل حلمي سلام: “نحن ولا تجزم أن الشعر ليس إلا وزنا، فننزلق إلى الضفة المقابلة ونستنتج أن الشعر ليس إلا وزنا غير متوازن. فكما رأينا أن الوزن ليس شرطا للشعرية، نرى أيضا أن انعدام الوزن ليس شرطا للشعرية.

«4»

ولأن علي ليس شاعرا فحسب، بل هو مثقف وسياسي وناقد وروائي طليعي، فهو يهتم بكل تجليات وتجليات الثقافة، ومشاكلها، وأحلامها الاجتماعية بالتغيير. ويجب ألا ننسى أنه كان ناشطاً عضوياً، يحلم بواقع أفضل أيضاً. وهو عندما يكتب قصيدته فإنه لا يكتبها بشكلها وفنيتها ولعبها النصي وشكلها المجرد، بل من ضمن إطار وعيها الاجتماعي وفي كل ما يمكن أن تقوله القصيدة من تعبيرات عالمية وشخصية. والوعي المحلي والشعبي والإنساني، يعبره من حدود الكلام إلى أفق الفعل والتواصل الأوسع.

ولأن الشعر عند علي الدميني ليس خيالاً محضاً، بل هو خيال حر متحرر من الذاتية والمعاناة الكبيرة، فإننا نستشعر فيه روح معرفة الواقع وروح الوعي بالعالم، وهذه الروح المحلقة هي ولا تخلو من صور الرؤى والتنبؤات الاستشرافية «الرؤية»، وهي موجودة في شعره هنا، كما أشار الناقد الشهير هارولد. قال بلوم إن الشعر هو «بحث لمعرفة الكيانات العظيمة التي خلقها الخيال. الشعر هو تاج الأدب الخيالي.” وهذا ما حاولت البحث عنه في هذه المجموعة:

كيف أبدع خيال علي الشعري في بحثه الدؤوب عن جوهر الكائنات والعلاقات والأشياء الشخصية والخاصة والعالمية في اجتماعها الحميم والعابر في أفق الرؤى والتنبؤات؟

وكيف ابتكر تمثيلاته الجمالية، ونقلها من الاستعارات إلى الاستعارات.. إلى أفق المعنى؟

فلنقرأ هذه القصيدة الحلوة: “آخر سيرة الجوادي”. إنه يأخذنا بعيدًا نحو المدى البعيد للوعي المعرفي والعالمي. فالشاعر لا يكتب باستخدام أساليب الحداثة في اللغة والشكل فحسب، بل يكتب بوعيها وفكرها وعالمية جمالياتها وعلاقتها بالجماليات والمعارف الأخرى:

«زمن الشعر يجب أن يأخذ رحلتي من خيام القبيلة إلى شواطئ البحر الكاريبي

“انتظرت عامين من الجنون حتى تجمد شوق الماء في روحي.”

تستمد هذه القصيدة في مقدمتها النثرية الشعرية جذورها من تاريخ وعي الشاعر، من سيرة الحصان العربي الذي انطلق إلى أقاصي الجغرافيا العالمية فاتحاً لا ينقصه جنود ولا بنادق.

يسافر الشاعر هنا إلى جنة الرحيق الموسيقي “كوستاريكا”، فيما لا يزال خيالنا الجمعي مثقلا بوعي البنادق، وانفتاح الجنود على المناطق النائية، والحروب المباحة من أجل بيض الحمام.

أراد الشاعر أن يذهب إلى هناك ليتخلص من آثار هذا الألم التاريخي والألم الجماعي، حاملاً معه سيرته الأخيرة وجراحه وعشرين نصاً شعرياً بيده، دونها بلافتة، يتطلع من خلالها. شرفاته المظلمة كأنثى وردة تتفتح على النافذة!

“إلى كوستاريكا أحضرت جروحي وتعويذتي

لقد تركت حصاني على أرض جيرانك في أقصى الشمال

جئت وفي يدي عشرين نصاً من الشعر..

وكأن الرحلة كانت بالنسبة له نحو مكان مجهول وجغرافيا الوعي، وبالفعل لم تكتمل كما أخبرني بنفسه، في حادثة طريفة عشتها وضحكت معه. وفي يوم سفره في ربيع 2016 إلى كوستاريكا، توجه إلى المطار ببدلته الزرقاء البحرية، عازماً وحزم حقيبته، ودعني في البحرين وليس… ثم اتصل بي وبعد ساعات قليلة قال:

«لقد عدت يا صديقي وألغيت سفري. أين أنت؟” عندما علمت أن ذلك لم يكن بسبب قلق القصيدة في قلبه من السفر إلى المجهول، بل لقلقه نفسه من مواجهة عزلة المكان وفقدان أشياءه الحميمة التي اعتاد عليها. ..

هذا ما فسرته، وهكذا هو شاعرنا في حالته النقية الرقيقة، لا يتحمل الانفصال عن صغيراته الحميمية، شديد الحذر من الغريب، كما يقول في نفس القصيدة:

“لم أكن لأتمكن من السباحة بدون والدتي

لكنني سأختبر كيف يمكن للحصان أن يكون رفيقًا وصديقًا

وإذا ركض مثل الريح وراء الفريسة.

والشاعر هنا بوعيه المعرفي الحاد يتخلص من الموروثات سعوديوم الأسطورية وجراح الماضي التي علقت في مخيلته، ويحمل جراحه وحلمه بوطن مماثل يتزين ببياض الحمام، داعيا رفاقه إلى لتتدفق القصيدة مثل الهمس فوق أرض الخيال النقية، أرض الندى والسلام، “سان خوسيه”:

«الغناء في حاناتها

بين لحن الكمان

والتعاويذ والسهام البرقية.”

«5»

ولا أبالغ إذا قلت إن هذه المجموعة الشعرية الأخيرة تنبع من مجموعة واسعة من الاستعارات والاستعارات والاستعارات والرؤى، كما اعتدنا عليه في ديوانات الشاعر السابقة. ومثال ذلك قصيدة: “قلق القصيدة” التي كان الشاعر يسميها قلقه… قلق نفس الشاعر منه… القول لا ينشأ عن فعل أو لا ينتج عن مراسلة بينهما، وأنها تسعى إلى التماثل في عدم التماثل.

إن رؤية الشاعر للتماثل في عدم التماثل هي إحدى الرؤى المركزية في الخيال الشعري. الشاعر وحده هو الذي يفهم الانسجام العالمي، كما يقول الشاعر ماكليش. ويستمد المعنى في الشعر من نظرة الشاعر إلى العلاقات المشتركة غير المرئية بين الموجودات، ومن خلال بصيرته يرى التماثل والحقيقة الجوهرية بين التناقضات والأضداد، ونرى تمثيلات. وهذا التماثل المجازي في عدم التماثل هو كما نقرأ في هذا المقطع من قصيدته “آخر سيرة الجوادي”:

“سأبحث عن زهرة القهوة التي عطرت قريتي

في الصباح

إغراء كأسها

وابتساماتها في المساء

وتلك التي يعشقها الناس في بلدي

كما تحب الخمر وجميل النساء».

«6»

وكما ذكرت سابقاً فإن شاعرنا يطارده الإيقاع التفاعيل في جميع قصائده. وحتى إذا ظهر في بعضها نثراً قريباً من روح الشعر، فإنه سرعان ما يعود إلى لحن قصيدته إلى إيقاعها الذي يفضله «الإيقاع التفاعيل»… كما نجده في قصيدته الرائعة قصيدة “قلق القصيدة”:

«ودخلت في قلق القصيدة، أثقل قلمي.

وألمي كتاب

الصمت لا يُلهيني عن الذاكرة، وإن استمرت

الغياب لا يشفي…

وتستمر القصيدة في التدفق في سياقها حتى يقول:

“في البداية كان الحب – كان هناك حزن – كان تأمل في المعنى

وأحزان البرية

هل تذكرين العيون عندما غمر وجه فتاة القرية الأمواج حتى غرقت ولم تعد تستطيع المشي على قدميك؟

وفي هذا المقطع تحولت القصيدة إلى نثر وكأنها شعر، بحسب أبي حيان التوحيدي. وعندما تنتقل القصيدة من منطق الخيال إلى منطق السرد الكناي، فلا بد أن تأتي بصيغ نثرية تقترب من الشعر.

«7»

وفي نصه «من النسيان» يستحضر بحدة رمزية الغياب والضياع في كلمة «النسيان»، كحالة من الحصار الزمني الذي لا يبقى خارجه سوى ذاته الشعرية:

“يجب أن تنسى

لن يبقى شيء في طي النسيان إلا أنت

من الرسائل المكتوبة ومن الحمام الذي يعبر البحر قبل الصيف…”

وكأن النص ناقص وقد تآكل بسبب النسيان. ويؤكد الشاعر في نهاية النص:

“عندما تظهر أشباح الوجود على حافة الذاكرة

وأنت تمشي بشكل متقطع على سلالم الحديقة.

ينتهي النص ولا ينتهي.

يأخذنا الشاعر إلى عزلته التالية، عزلته الأبدية، حيث مصباحه، كما يستشعر في وهج انطفائه الأخير… وكأنه يريد العودة إلى حياته الأولى، مستذكراً صورة الرضاعة الأولى من صدر الوجود الضاحك حتى آخر لحظة يمشي فيها، برفقة أشباح الذاكرة، محطماً درج الحديقة.

في هذا النص القصير الخارج من دائرة النسيان والمتجه نحوه في الوقت نفسه، تظهر لنا نفس الشاعر في عزلتها في الصمت الذي يقول ما لا يقوله النسيان نفسه.




مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى