
ولا تقتصر وظيفة الأغنية على التسلية ودغدغة المشاعر ومداعبة الحواس وإثارة المشاعر. بل يساهم في تهذيب الأخلاق، والارتقاء بالذوق الفردي، وتعزيز علاقة الضمير العام بالوطن والإنسانية. ولعل للقصيدة الكلاسيكية مكانة عند بعض الناس ترفض الانتقاص من الغناء، وربما يرى البعض فيها إهانة. ديوان العرب مقدس، لكن تاريخ العرب والمسلمين حافل بالقصص والنوادر عن المطربين الذين غنوا القصائد ومنهم زرياب وإبراهيم الموصلي. وفي عصرنا الحديث غنى الراحل طلال مداح وطني الحبيب ومحمد عبده (نعم نحن الحجاز ونحن نجد) وألحان أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وكاظم الساهر. مارسيل خليفة له أغاني خالدة ذات نصوص بليغة. وهذه محاولة للتعرف على مواقف الشعراء من غناء قصائدهم. ويرى الشاعر جاسم الصحيح أن غناء الشعر البليغ يمثل إحدى الوسائل الفنية التي تعيد اللغة سعوديوم الفصحى إلى الشارع والمقاهي والبيوت وقلوب الناس. وأفواههم، ولعله الوسيلة العاطفية الأقرب إلى النفس الإنسانية، فالغناء قادر على صياغة ضمير الأمم، خاصة من خلال انتماءاتهم الوطنية، وهو ما يجعل الأغنية الوطنية ناجحة جداً عندما تكتب باللغة الفصحى، واستذكر قصيدة الدكتور غازي القصيبي (نعم نحن الحجاز ونحن نجد..) التي غناها الفنان محمد عبده، وقصيدة (وطني الحبيب وهل أحب غيره). للفنان طلال مداح. وأكد أنه يقف بإيجابية تجاه الغناء البليغ، ويطمح أن ينال نصيبه من اهتمام الفنانين، وأن ينتشر بين عامة الناس، ويمتد على كامل مساحة الوجدان الإنساني، مخترقاً الحب والطفولة والطبيعة. ، والعلاقات الإنسانية العامة. ورأى أن الغناء هو إعادة كتابة للقصيدة، فالآلات الموسيقية هي الأقلام. وأضاف: عندما يستمع الشاعر إلى قصيدته التي سكب فيها مشاعره، وتغنى، يشعر أنها قصيدة جديدة كتبها الملحن بآلاته، وألقى بها المغني بحنجرته إلى الجمهور ومضى يقول إن تجسيد المعاني الشعرية من خلال الغناء يشبه الغناء بالجسد وأعضائه، مما يجعل الناس يستقبلون القصيدة/ يغنون الأغنية بلهفة وذهول، ويحفظونها عن ظهر قلب ومحبة.
وبينما اعتبرت الشاعرة شقراء أن بوابة الموسيقى هي روح الكون، وأحد أعظم مفاتيح الحياة، والتفسير العذب لكل مشاعرنا الإنسانية، متسائلة: كيف يكون الحال لو اجتمعت الموسيقى والشعر، وماذا سيكون الحال لو اجتمعت الموسيقى والشعر؟ هل من شأن الجلالة أن تطغى على الكون؟ وتؤكد أنها أحبت القصائد الغنائية البليغة جداً، لأن الموسيقى تمنحها الروح التي تجسدها وتمنحها الخلود في عقول وقلوب جميع المستمعين، وتساهم في نقلها بكل رقة وعذوبة إلى جميع مناحي الحياة، وهو أمر لا يستطيع النص المكتوب وحده فعله. أما بالنسبة لإضافة الملحن والمغني، فترى أن الأمر يعتمد على خبرة وقدرة الملحن والمغني معًا. سيضيف الأخيار أبعادًا كثيرة للنص، ويترجمونه للمستمع بطريقة أكثر سلاسة وسهولة، ويحولونه من مجرد كلمات مكدسة على الورق إلى كلمات ذات جسد وروح يمكنك بكل نعمة فهمها، والتعرف على معناها، وحتى أشعر بما وراء ذلك. الميول والرغبات.
ويؤكد المدخلي أن النص لا تضعفه الموسيقى، بل يتقوى، إذا صح التعبير، واكتسب صفة الخلود. ولا دليل على ذلك من المقاطع الشعرية الأندلسية. ولا يزيدهم الزمن إلا بهاءً وجمالاً، ولا يزيدهم الغناء إلا أناقةً وصفاءً. إنها تعتقد أن الموسيقى هي لغة القوة، وليس الضعف، عندما يتم إجراؤها بشكل جيد. استخدمها المؤدي وقدمها بشكل يتفق مع معنى الكلمة وخطورتها.
في حين عاد الشاعر عبد الرحمن الموكلي إلى ما ورد في كتب التراث وأبرزها كتاب (الأغاني)، حيث كتب عن الغناء الكلاسيكي في العصرين الأموي والعباسي، وجاء بعد ذلك والموشح بالأندلس والحميني باليمن، وكلاهما قريب من الشعر الكلاسيكي. وأوضح الموكلي أنه جاء الارتباط بين الغناء والشعر الكلاسيكي. من الارتباط بين الإيقاع الشعري وموسيقاه بالغناء، كما هو الارتباط بين بحار الشعر والمقامات والجملة الشعرية وما يقابلها من جملة موسيقية، وهذا ما يعرفه المختصون، مشيرين إلى أن الأغنية لها تخرجات تتعلق لفنون المقامات، وتعددها يشبه ارتباطها بالبحار الشعرية وتعددها، مؤكدا أن معرفة المغني والملحن تحديدا بالشعر والمقامات هي التي تصنع اللحن. والجميل أن اللحن صناعة كما فعل السنباطي وكما صنع الفنان الموسيقار المرشدي وكما يصنع الفنان كاظم الساهر الآن. إن معرفة أسرار اللغة، ومعرفة القرآن الكريم، والتجويد، ونطق الحروف، ودرجات الصوت تعتبر من البيانات التي تلعب دوراً في النغم. ويرى أن من يعرف ذلك أعلم، ويبقى متذوقا، وكل ما يقوله هو نتاج ذوق، وليس معرفة فن الموسيقى وما تحتويه.
بينما يؤكد الشاعر أحمد السيد عاطف أن الغناء وسيلة لتحسين الذوق والثقافة والجمال والتعليم، ويأمل أن يعي مطربوننا وملحنونا ذلك، ويرى أن واجب الغناء هو التركيز على البلاغة الشعر، من منطلق الولاء للغة العظيمة والأمة الخالدة والجمال. وأوضح أنه سمع ذات مرة الفنان محمد مرشد ناجي (رحمه الله) ينصح الملحنين والمغنيين بمحاولة التلحين والغناء باللغة سعوديوم الفصحى، حتى بينهم وبين أنفسهم، من أجل تحسين نطقهم وقدراتهم، واعتبر أن اختيار القصائد الجميلة بالإضافة إلى الملحن والمطرب ما يمنحها تقديراً خاصاً لدى الجمهور، ويضيف هيبة للغناء كفن عظيم. . وقال عاطف: هناك قصائد رائعة في تراثنا ومجموعاتنا السعودية، لكن فنانينا لا يهتمون بالبلاغة، وهذا لا يناسبهم. ودعا وزارة الثقافة إلى تخصيص جائزة سنوية خاصة لأفضل أغنية باللغة سعوديوم الفصحى. جائزة خاصة سنوية لأفضل أغنية باللهجات المحلية في مناطق المملكة، وعلى الوزارة إلزام شركات الإنتاج الفني بذلك. وأبدى تحفظه على كتابة الشعراء قصيدة واحدة بلغة واحدة، والملحنين أيضاً، واعتبر ذلك السبب وراء عدم جذب أي فنان الاهتمام منذ 30 عاماً أو أكثر.
فيما أكد الشاعر والناقد الدكتور منصف الوهيبي أنه يرتبك أحيانا في التمييز بين القصيدة والأغنية. ويعزو الصعوبة إلى إمكانية غناء القصيدة. في حين أن الأغنية المكتوبة لتكون أغنية قد لا تكون أكثر من كلمات موقعة أو موزونة أو مقافية. إلا أن معظم الأغاني البليغة في تراثنا العربي كتبت لتغني. فهو إذن مرتبط بـ«الفضاء السمعي» الذي يحدث فيه، لما يحتويه من ديناميكية أو حيوية الصوت. فيصبح كالصدى الذي يتردد في كل أرجاء القصيدة، كما يجعلها تدور حول محورين متجاذبين: جسدي وعقلي، يجمعهما استعارة واحدة، أو يتراوح بين هذا وذاك. يُغنى بالجسد وفي الجسد أيضاً، وفي قصيدته يحشد الصوت والأذن معاً لإنتاج خطاب يستطيع المتلقي من خلاله تحقيق المعنى المطلوب ويفهمه. لكن هذا لا يؤدي إلى تطابق كامل بين الأغنية والقصيدة، فالسمع له أكثر من صفة تميزه عن البصر. السمع مرتبط بالصوت. بل هو الذي يعلم الصوت، أو هو الذي يرصده. وأضاف الوهيبي: ولعل إلقاء الشعر أو غنائه أو إنشاده هو ما يعطي القصيدة شكلها الموسيقي المسموع، أو لنقل أنه الإيقاع المسموع، أو يؤدى على نحو ما تؤدي إليه “النوتات الموسيقية”. إجراء. وأكد أن القصيدة المغناة هي أغنية محفوظة في ذاكرة المغني، وهي أشبه باللوح الموسيقي أو الوقفة الموسيقية. باختصار، هو «نص صامت» ينتظر أن يضاف إليه لحن. أو ما قال سيبويه أن الشعر قيل يغنى. هذا يجب أن يكون بسيطا في القول.
الأغنية لها تفسيرات تتعلق بفنون المقامات
بينما قال الشاعر أحمد القيسي: الشعر في الأصل كتب للغناء بالمعنى الواسع للغناء، والغناء هو أقرب وسائل العرض التي تناسب طبيعة النص الشعري المبني على الإيقاع. وأضاف: ولا ننسى أن بعض الأغاني خلدت قصائدها. وما زال الناس يتغنون بآثار إبراهيم ناجي، ولولا أنها تغنت لما عرفها أحد في عصرنا الحالي. الأمر نفسه ينطبق على القصائد الغنائية لنزار قباني ومحمود درويش. وتساءل: ألم تكن النصوص الشعرية أقوى في تلك المرحلة؟ منها؟ إلا أن الغناء هو الذي أعطى نصوصهم نورا وروحا لتبقى عالقة في أذهان الناس، مؤكدا أن هذه رسالة للفنانين الواعدين للاهتمام بالقصيدة الفصيحة والقيام بدورهم في تقريبها من عامة الناس.