قبل عدة سنوات، كان المزاج السياسي الدولي مفتوناً بالقضية السورية. ونظراً لتأثيره الكبير على السلم والأمن الدوليين، وبسبب ضراوة الصراع الذي جذب دولاً كبيرة إلى الأراضي السورية، فإن هذا الاهتمام الدولي كان أشبه بساحة صراع على الأرض، وتحديداً في فترة ما قبل سيطرة الجيش السوري. السيطرة على حلب في نهاية عام 2016، عندما كان الصراع في ذروته. سياسياً وعسكرياً دارت النقاشات الدولية حول سؤال واحد: من الأقرب للنصر؟!
وفي الوقت نفسه، انغمست الأطراف السورية في تعزيز مواقعها على الأرض لإثبات تفوقها، خاصة أن قانون الحرب في الشرق الأوسط يقوم على تعزيز التقدم العسكري والسيطرة على الأرض، وبالتالي اللعب بالأوراق السياسية. . وهذا ما جعل المعارضة السورية -قبل انهيار التوازن العسكري- تجلس إلى الطاولة. حوار مع دمشق، وعقدت جولتان من المفاوضات في (جنيف 1) و(جنيف 2). وكانت هذه هي المرة الأولى التي تجلس فيها المعارضة وجهاً لوجه مع الحكومة بحضور مبعوث الأمم المتحدة.
خسارة أكبر المعاقل الاستراتيجية
وفجأة انهار كل شيء، وتغيرت موازين القوى نهاية عام 2016، بعد سيطرة الجيش السوري وحلفائه على حلب، وخسارة المعارضة المسلحة أكبر معاقلها الاستراتيجية. وحينها تبخر الاهتمام الدولي، وتحولت القضية إلى حفنة من اللاجئين والعمل على استيعاب هذه المأساة الإنسانية، حيث شرد مئات الآلاف. من السوريين إلى تركيا، التي تحملت العبء الأكبر. وخرجت الفصائل المسلحة من حلب، واستولى الجيش على أراضٍ استراتيجية حسنت موقفه الدولي والإقليمي، وتأسست “عملية أستانة” على المستوى العسكري بين المعارضة والحكومة برعاية تركية وإيرانية وروسية. وكانت هذه المرحلة من أهم الانقلابات في مسار القضية. سوري؛ مما كان له تأثير سياسي على المستوى الدولي وعلى مستوى ثقل المعارضة، وأصبح هناك مفهوم (ما بعد حلب)!
نقطة التحول هذه جعلت القضية السورية تتراجع إلى المستوى العاشر من الأزمات العالمية، خاصة بعد تراجع الضغوط الأخلاقية على الدول، واستقبال تركيا مئات الآلاف من اللاجئين، وانخفاض موجات اللجوء في أوروبا، والعمليات العسكرية التي كانت صادمة للعالم. توقفت، الأمر الذي جعل العديد من البلدان تتنفس الصعداء. أما في الشأن السوري فقد وجدوا فرصتهم للانسحاب التدريجي من هذا الملف المعقد، واكتفى الجميع بحصتهم من هذا الملف.
صورة قاتمة وحظوظ متواضعة
وعلى الرغم من الصورة القاتمة المحيطة بالقضية، والفرص المتواضعة، إلا أن هناك محاولات مستمرة لكسر هذا الركود ووضع الملف السوري على طاولة المجتمع الدولي. ولذلك طورت لجنة التفاوض أدواتها، وجعلت الساحة الدولية ميدانا لحركات سياسية نشطة منذ أكثر من عام، خاصة في نيويورك في اجتماعات الجمعية العامة، واللقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ، في سبتمبر الماضي، وهو الاجتماع الأول من نوعه منذ سنوات على هذا المستوى.
قد تبدو المعارضة السورية للبعض وكأنها اختفت، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. وما يغيب هو الاتجاه الإعلامي والدولي الوحيد، وظهور بعض الأزمات الدولية والإقليمية مثل حربي أوكرانيا وغزة. إلا أن القضية السورية بكل جوانبها لا يمكن تجاهلها، خاصة وأن هذه الأزمة تسير على مسار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي تعول عليه لجنة التفاوض باعتباره مفتاح الحل، وهو واقع الاعتراف الدولي بسورية. الحل السياسي بما في ذلك روسيا. من أكبر الدول الداعمة للحكومة السورية، وضمن هذا القرار اعتراف واضح وصريح بوجود طرفي الصراع؛ الأول هو الحكومة والثاني هو المعارضة. مما يعني أن أي عملية سياسية أو حل في سوريا يجب أن يرتكز على قرار مجلس الأمن، وبالتالي هناك من يمكن التفاوض معه على هذا الحل.
عودة دمشق ومسار الاحتواء
وفي الوقت نفسه عادت دمشق إلى أروقة الجامعة سعوديوم وانفتحت على العالم العربي، وأفرز التقارب بين الحكومة السورية والجامعة لجنة متابعة (السعودية – الأردن – العراق – مصر)، إلى إيجاد الحل السياسي، وهو ما خلق بيئة عربية جديدة تدفع أيضاً نحو الحل السياسي، ونقل الملف. وهذه التطورات نقلت القضية إلى الطاولة سعوديوم على أسس عربية جديدة. ما زال من السابق لأوانه تقييمها، ولكن من المؤكد أن هناك مساراً يقوم على الاحتواء، وليس المواجهة مع دمشق.
وفي فبراير/شباط 1967 – وبعيداً عن القياس – أصدر مجلس الأمن القرار الشهير رقم 242؛ وهو ما يتطلب انسحاب إسرائيل، ولا يزال هذا القرار جزءا من حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، رغم مرور أكثر من نصف قرن.
القرارات الدولية لا تموت أو تنقرض بالتقادم. بل يظلون هم الحامل الرئيسي لحل الصراعات. لكن في المقابل فإن الإرادة الدولية هي العامل الأساسي في حل الصراع وإحلال السلام، والحراك السياسي هو التحرك الضروري لإعادة الاعتبار للصراع وإقناع الدول بأن تعليق القضايا لن يطوي صفحات الصراع لا. لا يهم كم من الوقت يستغرق. وقت.
انتهت الحرب… والأزمة مستمرة
انتهت الحرب لكن الأزمة ما زالت دون حل، مع بعض الأعباء المحتملة على الدول التي تكيفت مع تكاليف الأزمة السورية.. لكن ماذا بقي من المعارضة السورية.!؟
يعترف العديد من المعارضين بأنهم أضاعوا فرصاً ذهبية قبل عام 2016، وأن «لعبة الأمم» -إذا جاز التعبير- كانت أكبر من قدرات معارضة لم يتجاوز عمرها عقداً من الزمن في مواجهة دولة راسخة لها العديد من البطولات الدولية. والعلاقات الإقليمية، وفهم عميق لديناميات الشرق الأوسط. لكن على الرغم من كل هذا، لا يزال هناك من في المعارضة يراهن على أن الوقت لم ينته، وأن الأزمة لن تنتهي، وأنه لا يزال من الممكن فعل الكثير. وذلك لأن الصراعات لا تموت بالتقادم.. ولكن ماذا تفعل المعارضة وهل ماتت فعلاً واختفت عن الساحة الدولية!؟
وفي 18 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، التقت هيئة التفاوض السورية مع 26 مبعوثاً دولياً في جنيف، وعرضت لهم بوضوح الفشل الدولي في دفع العملية السياسية، وضرورة إيجاد آليات ومخرج من حالة الجمود، لا حرب، لا سلام.
لكن هناك تطورات طرأت في العام 2023 على أداء المعارضة بشكل غير تقليدي، كما كان في السابق. التطور الأهم هو التفاعل الأوروبي مع لجنة التفاوض التي تحولت إلى حصان طروادة في أوروبا، حيث أصبحت الاجتماعات على مستويات عالية بعد ركود كاد أن يدخل الأزمة إلى غرفة الإنعاش. وبعد اجتماع جنيف جرت لقاءات نوعية على مستوى الشخصيات الأوروبية المؤثرة التي لها تأثير في القرارات الأوروبية، والتقى رئيس لجنة التفاوض بدر جاموس في نوفمبر الماضي بالمدير السياسي لهيئة العمل الخارجي الأوروبي إنريكي مورا. . وهي لقاءات خسرتها المعارضة عموماً منذ سنوات، وتحديداً منذ تلاشي ما كان يعرف بـ”مجموعة أصدقاء سوريا”.