دعوة للعودة إلى المكان الخلاق.. من غير نفس أمارة

من الطبيعي أن تنتقل الحياة من مرحلة إلى أخرى، وهذا الانتقال يحتاج إلى سلطة تخترق الوجود بشكل مختلف عما كانت عليه من قبل. التغيير هو إضافة أو إزالة، والسلطة (في حياتنا العامة) هي المعرفة التي تأتي مع مفاهيم جديدة، ويتم تصحيح تلك المفاهيم بمفاهيم رانت. في العقل وأصبح حالة سائدة (أو ما يقال عنه: هذا أمر بديهي)، والقول بأن هذا الأمر أمر بديهي هو المانع المانع من أي إضافة أو تغيير، إلا أن هناك هي عقول تتحرك لتغيير البديهي لتكتسب مرحلة جديدة، يكتسب فيها الوجود شكلاً جديداً. ويستمر الأمر بديهيًا حتى يأتي الوقت الذي يغير الجديد إلى الجديد.

تطور الحياة لا يعترف بالبديهيات، بل يتعرف على المتغيرات، وفي ظل الحركة لا يوجد ثابت، والمتغير يقلق الساكن. إذا رميت حجرًا صغيرًا، يمكنك تغيير سطح نهر أو بحر ساكن.

الكون عبارة عن دوائر متعددة، ولكل دائرة مركزها الخاص، والمركز الرئيسي له أشكال هندسية لكي يكون له القدرة على التغيير، إذ لا فائدة من الحركة في وجود السكون، أو استقرار المركز، ولذلك يجب أن ننتبه إلى قوله تعالى (من في السماوات والأرض يسأله كل يوم عن أمر) (الرحمن 29).

ولكل حركة مركزيتها الخاصة، وكل الدوائر تتحرك حسب مركزية الدائرة الكبرى أو ضمن إرادة الحقيقة المطلقة. كل المفاهيم متغيرة إلا الله – تعالى – الذي يحرك كل شيء حسب إرادته.

ما علاقة العبارة السابقة بالرواية؟

الحياة من بدايتها إلى نهايتها قصة، موقف روائي، له بداية، وذروة، ونهاية. وكما يعتمد الإنسان على نتائج من يستكشف عمق الفضاء، أو عمق المحيطات، أو في عالم الحيوانات أو الحشرات، دون الاعتماد على أعماق النفس وتغيراتها، جاء الروائي ليكتشف تضاريس النفس البشرية، ولا يوجد دليل على ذلك. حيث أن علم النفس كان يعتمد على روايات دوستويفسكي.

منذ الخليقة إلى الآن، ما الذي تغير من حيث الأماكن والمعرفة؟ كثيرة بالطبع، وكما تتولد فروع الحياة، يتولد العلم، وكل علم يجذب العالم إلى طور مختلف عما كان، (وخلقكم أطواراً).

وعلى مدار آلاف السنين كانت الحياة موجودة في ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، حتى جاء أينشتاين بالبعد الرابع الذي أسماه الزمن. وعلى افتراض أن الزمن هو مغير الأشياء، فقد قامت التفاهمات على هذا الاعتقاد. ولو حركنا الكتيب قليلاً فلن يكون هناك وقت، بل سيكون هناك مساحة كعنصر رئيسي. ومع التغيرات التي تطرأ على المكان نشعر بالزمن، وهذا شعور وليس حقيقة. إنه واقع افتراضي، فالمكان هو المسيطر في كل المتغيرات وفي كل الأبعاد. ومن الحالات الأخرى التي وصل إليها العقل البشري مؤخراً هي نظرية الأوتار، ومن المؤكد أن العقل قد وصل إلى نظريات أقرب إلى الحقيقة.

نظرية الأوتار هي نتاج رياضي يتصور أن الكون في حالة أوتار حلقية، وحالة أخرى مغلقة متناهية الصغر عديمة السمك، وهي في حالة من عدم الاستقرار، ويعتمد قياس التذبذب على موقع الوتر، ومن خلال وبتغير موقعه، يستشعر المراقبون الزمن، فالزمن هو شعور يأتي إلينا من خلال تغير المكان.

ويمكن طرح السؤال مرة أخرى: ما علاقة كل هذا بالرواية؟

حسنًا، يرى الروائي أنه يسير في روايته وفق المثلث الأرسطي ذي الأبعاد الثلاثة: (المكان، الزمان، الشخصية)، والمفاهيم الراسخة بأن الزمن ضرورة سابقة على أبعاد الحياة التي يتقدم فيها. بينما الزمن طيع في السرد، ويستحوذ على الماضي، وخاصة الرواية، في حالة (كان). وبينما الكون في حالة “كن”، وجاء الأمر بـ “كن” بحسب تغير المكان، فلنعود مرة أخرى إلى أبعاد الروائي أثناء الكتابة… ابتداءً وبحسب ما هو متعارف عليه أن هناك زمناً خارجياً (المكان) وزمناً داخلياً (وهو النفسي)، ومن خلال الاقتراب من الحالتين يمكن تمييز أن زمن الحلم هو ثواني، أما خارج الحلم فالزمن أطول بكثير. مما هو عليه في الحلم. تم إجراء تجربة على أحد المزارعين باستخدام التنويم المغناطيسي، حيث يطلب منه أن يعد الورود التي رآها، وعندما يصل إلى 2000 وردة في عده، يقول بعد ذلك إنه أحصى العدد المطلوب، ويقومون بقياس الوقت بين البداية والنطق. وعندما وصل إلى عام 2000، وجدوا أن الأمر لم يستغرق سوى عُشر ثانية لينطق بأنه وصل إلى العدد المطلوب، فكان الزمن مختلفًا بين المنوم والراصد، وفي كلتا الحالتين كان المكان هو المؤشر لحساب الوقت. .. كما أننا عرفنا علماً شبه مؤكد أن هناك أزمنة مختلفة (زمن الملائكة، زمن الجن، زمن القبر، زمن النور، زمن الصوت) في هذه الأوقات، وقد أهمل المكان وهو الأساس، وإذا قلنا إن لكل حركة زمانا، فمن الضروري أن نقول إن لكل حركة مكان، وليس زمانا.

في بداية حياتي (عندما كنت صبيا) انشغلت بفكرة الأراضي السبع، ومع انشغالي بالقراءة والكتابة، توصلت إلى حل الأراضي السبع في رواية الطين ( حل يرضيني شخصيا على الأقل). تغيرات المكان وتشكيلاته قادتني إلى سرعة الروح، وسرعة المكان أيضًا، فالتغيير يكمن. هذا إذا اعتبرنا أن بنياتنا البشرية هي أماكن، وأي تغيير في النفس يجعلنا نشعر بمرور الزمن.

منذ تلك المراهقة الأولى – وأرجو ألا أصنف كمراهقة فكرية – في ذلك الوقت، كان المكان هاجسي عندما كنت أبحث عن الأراضي السبع. وفي جدلية المكان والسرعة، يتغير الإحساس بالزمن… وهذه المعضلة الزمنية يواجهها الراوي، حيث يتغير السرد من مكان إلى آخر حسب الكلمة أو الجملة. الكلمة المكتوبة في بداية الرواية تتغير مع مكانها في الرواية. يقول الراوي الشعبي:

“دولة تشلل ودولة تتحلل”. فالزمن بالنسبة لها هو المكان وليس الزمان، أو لنقل انتقل من جدة إلى تبوك. المكان معروف في ذهن ساكن المدينتين، وإذا غابت تفاصيل المكان عن السامع، فإن ذاكرة المدينتين ستتخيل في المكان وليس في الزمان، وساكن المدينتين مكانان يعرفان التغيرات المكانية وقياسها الزماني. ومع هذه المتغيرات يرجع ذلك إلى تغير المكان.

فإذا كانت أبعاد الراوي هي (المكان، الزمان، الشخصية)، وجمعت الزمانية في عنصر واحد وهو المكان، فإن الشخصية تصبح كالروح المتحركة أثناء السرد (والروح مكان يقيم في هذا) جسم).

ولو أردنا أن نستشهد بقوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا. “أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين” (الأعراف 172). ومن هذه الآية فإن الحاضر هو المكان (الممثل بالنفس) ولا يوجد زمان، فالنفس حاضرة، وفقدت الوعي بعد هذا الحدث. أي تغير المكان، وإذا قرأنا الآية نقول حسب المفهوم الزمني في مخيلتنا أنه حدث في زمن لا نعرفه، ولكننا نؤمن بحضورنا ونطقنا بالشهادة في زمن محدد. مكان لا يعلمه إلا الله .

ويتشكل حضور النفس في الرواية بحسب خصائصها الداخلية، إذ لها ثمانية أحوال تثبتها الإيمانية. أنواع الروح هي:

المذمومة (ولا أقسم بالنفس المذمومة) الراضية (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) المرضية (ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي) المطمئنة (يا أيتها النفس المطمئنة) الآمر (ولا أبرئ نفسي فإن النفس لأمارة) والملهم (والنفس وكل ما ألهمها الفسق والتقوى) والكاملة (والنفس وكل شيء غيرها). والزكية (قتلت نفسا طاهرة).

لقد قمت بتطوير أفكار لكل رواية أكتبها. الأفكار تسبق القصة بالنسبة لي. وتتنقل هذه الأفكار بين الشخصيات في العمل. لا أذكر أنني كتبت رواية مزدوجة، بل ذوات متشابكة بأفكارها وطبيعتها وتنوعها بين الذوات الثمانية، بحيث لو اجتمعت في عمل واحد لحدثت الدراما بين تلك الذوات. بحثاً عن التكامل يُصحح الناقص، ويُصلح المنحرف، ويُخفف الشر، وينبت الخير في ذهن القارئ الباحث عن كماله الإنساني.

وكل رواية هي محاولة لإصلاح تلك النفس، والأدب يسعى إلى إصلاحها من خلال القيم العظيمة. وحتى لو كان الشر طاغيا في العمل الروائي، فإنه يظهر نقيضه تماما، ويحفز نفسية القارئ على الانتقال إلى الجانب الآخر للارتقاء بنفسه.




مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى